%D8%A3%D8%B5%D9%88%D8%A7%D8%AA%20%D9%85%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%86%20-%20%D8%B9%D8%B2%D8%AA%20%D8%A7%D9%8A%D9%88%D8%A8 - ارشيف موقع جولاني
الجولان موقع جولاني الإلكتروني


أصوات من الجولان *
عزت أيوب - نيسان 2012
يوم الاحتلال في 5/6/1967 كنت في مدينة دمشق أتقدم لامتحانات دار المعلمين. لقد فصلنا الاحتلال عن أهلنا وعن بلدنا وعن أملاكنا. لا أنسى بلدتي مجدل شمس أبداً. ففيها عشت أيام طفولتي وهي أحلى أيام الإنسان. كانت أسعد اللحظات لديّ عندما أعود إلى بلدتي في الصيف أو أقضي فيها العطلة، فأنزل إلى بساتينها وأعمل في الأرض وأعيش مع أقربائي وأصدقائي. هذه أجمل لحظات حياتي، وجميع ذكرياتي كانت فيها.
أنا مزارع عملت في البساتين وسرحت بالأبقار والماشية، ولعبت بالثلوج وتنزهت في سهول الجولان ووديانه وتلاله. وكم أكلت من طعام الشتاء كالدبس بالثلج والذرة المسلوقة. وها أنا اليوم في كهولتي لا أملك إلا أن أتذكر الطفولة والبلدة وأزقتها وبيت أهلي وغير قادر على زيارة هذه الأماكن. ثمة أمور كثيرة أنساها، لكن هل أنسى طفولتي، ومخيلتي معلقة في أرضي التي لم أرها منذ 45 سنة؟ لو أعطيتني الآن قلماً وورقة فسأرسم لك مجدل شمس القديمة بيتاً بيتاً وشارعاً شارعاً وزقاقاً زقاقاً. ما زالت البلدة في مخيلتي كأنني أعيش الآن في منزلنا الحجري وسقفه الترابي حيث كنا نجرف الثلج في الشتاء ونلعب به.
عشنا في المجدل مع إخواننا المسيحيين كالإخوة. وبعضهم هجر المجدل إلى دمشق لأسباب متعددة. ولكن، حتى اليوم، عندما نلتقي نبكي. ونحن لا نقيم فرحاً أو أي مناسبة إلا ندعوهم إليها وهم كذلك. وأسعد اللحظات لدينا أو لديهم عندما نجتمع معاً. لم نعرف التفرقة الطائفية أبداً. وفي المجدل اليوم، تحت الاحتلال، بعض العائلات المسيحية يتقاسمون مع أهلنا المصير نفسه والحياة نفسها.
المسيحيون في المجدل كانوا يعدون نحو نصف السكان أو أقل قليلاً. لكنهم، بالتدريج، صاروا يقيمون في القنيطرة ويفتتحون لهم محال ومصالح حتى أصبحوا قلائل. سجلاتهم الشخصية ما زالت في مجدل شمس. ولاحقاً جاؤوا إلى الشام وسكنوا فيها. ولكن عندما نلتقي نعود إلى أيام الأربعينيات والخمسينيات قبل الاحتلال ونتذكر كم كانت تلك الأيام جميلة.
الفلسطينيون في الجولان سكنوا القطاعين الأوسط والجنوبي. أما في القطاع الشمالي فأعدادهم محدودة جداً. قبل 1948 كانت التجارة بين فلسطين والمنطقة مزدهرة، والمسافة عن الحدود الفلسطينية لا تتعدى الساعة على الدواب. ولدينا روابط عائلية وثيقة بالجليل في فلسطين. لكن منذ سنة 1948 انقطعت هذه العلاقة بسبب احتلال فلسطين لتعود فتتجدد سنة 1967 مع احتلال الجولان وفتح الحدود. لقد توحدنا تحت الاحتلال ثانية.
يوم 5 حزيران/ يونيو 1967 سمعت خبر اندلاع الحرب. لم ألمس أي بوادر للحرب قبل ذلك. كنا أنهينا امتحانات دار المعلمين، وبدأت العمل الصيفي في قطاف الكرز بالشام. كنت، كأمثالي، أعمل في الصيف لأعيش في الشتاء. لم يصدق أحد، للوهلة الأولى، أخبار الحرب. وعندما بدأ الناس يتوافدون على دمشق كالموظفين والعسكريين ونساء العسكريين بدأت الأخبار تتجمع والكارثة تتضح. خرج البعض ولم ير جندياً واحداً يدخل المجدل.
تقع المجدل على سفوح جبل الشيخ، وبين بلدة مسعدة والمجدل خمسة كيلومترات. وهذه الكيلومترات الخمسة لم ينتشر فيها الجيش الإسرائيلي في الأيام الأولى من الحرب. وبعد 3 أيام من احتلال مسعدة دخل الجيش الإسرائيلي المجدل. هنا وقف المشايخ الكبار في البلد أمام الناس وقالوا إن الحرم الديني سيفرض على كل واحد يخرج من بيته. نحن جماعة لدينا مثل يقول إن الولد والأرض والروح يعادلون بعضهم. ونحن لا نريد الخروج والتشرد. وهؤلاء المشايخ الكبار كان لهم الفضل الكبير في تثبيت الناس في أرضهم. وليت الجميع تشبثوا بأرضهم.
في سنة 1984 سافرت إلى اليونان وجاء أخي والتقينا. وعندما عاد إلى الجولان استدعته المخابرات الإسرائيلية إلى التحقيق وأهين وعذب وسجن. نحن لا نستطيع أن نلتقي على أرضنا ونحتاج إلى أرض أجنبية لنتلاقى. طيلة هذه المدة رأيت والدي ووالدتي مرتين. توفي أخي ولم أره. التقيت والدتي في إحدى المرات في الأردن. وفي أثناء اللقاء جاءني خبر وفاة شقيقي. فغادرت والدتي إلى الجولان وعدت أنا إلى دمشق. هذا مثال على المآسي التي نعيشها. إن جدار برلين كان أرحم. فالناس في برلين كانوا يلتقون عند الجدار في فترة الأعياد. لو كان أهلي في أميركا لركبت الطائرة وذهبت إليهم، وهم بدورهم يمكنهم أن يركبوا الطائرة ويأتون إليّ، غير أننا مكرهون على السير 75 متراً أنا وزوجتي وأولادي لكي نصل إلى الشريط الفاصل، وهناك لا أستطيع أن أرى أحداً من أهلي، بل يمكنني أن أناديهم بمكبر الصوت وأخبرهم عن أحوالي وهم يفعلون الشيء نفسه. نحن نتخاطب بالمكبرات ولا يرى بعضنا الآخر، مع العلم أن المسافة التي تفصلنا لا تتجاوز 200 متر.

وطن مسيج بالأسلاك
حصلت أكثر من حادثة مأساوية في أثناء التخاطب بالمكبرات. أحدهم كان يتحدث إلى والدته فسقطت ميتة أمامه ولم يتمكن من حملها أو توديعها. هذا حدث مع سليمان بدر أبو صالح: ماتت أمه قبالته وهو أمامها لم يتمكن من أن يفعل شيئاً. أي أخلاق أو ضمير أو إنسانية تمنع الفرد من أن يرى والدته أو والده ولا يلقي نظرة الوداع الأخيرة عليه. هذا أمر لا يحتمل بل هو مأساة كبيرة.
عندما احتلت ألمانيا بولندا تحول 70% من البولنديين إلى التعامل مع الاحتلال. وحصل الأمر نفسه في فرنسا. لكن خلال 32 سنة من الاحتلال الإسرائيلي لم يتعامل معه أحد باستثناء قلة قليلة لا تتجاوز 1%. هذا وسام شرف على صدر أهل الجولان الذين تشبثوا بأرضهم ورفضوا الجنسية الإسرائيلية وخاضوا إضراباً متواصلاً طوال ستة أشهر كاملة سنة 1982 كانوا من خلاله محاصرين تماماً، فلم تدخل إليهم حبة دواء واحدة أو ربطة خبز أو علبة حليب لأطفالهم. لقد اعتمدوا على سواعدهم وعلى إنتاجهم الذاتي. إن صمود أهل الجولان أفشل خطة إسرائيل في قيام حزام أمن يمتد من الجولان حتى جنوب لبنان.

________

* تشرت في ملحق السفير الشهري كجزء من مادة تحت عنوان "أصوات من الجولان".